منذ اللحظة الأولى لاحتلال فلسطين عام 1948، شرعت إسرائيل في إنشاء منظومة قمعية ممنهجة تمثّلت في تأسيس شبكة من المعتقلات والسجون ومراكز التحقيق التي تحوّلت إلى أدوات لإدارة الصراع مع الشعب الفلسطيني، عبر الاعتقال الجماعي والتعذيب الجسدي والنفسي، في انتهاك صارخ لكل القوانين والمعاهدات الدولية.
وبينما يتباهى الاحتلال بديمقراطيته المزعومة، تكشف الأرقام والوقائع الميدانية عن الوجه الآخر لدولة تمارس التعذيب كسياسة ممنهجة لا كاستثناء. فمنذ عام 1967، اعتقلت إسرائيل أكثر من مليون فلسطيني، بينهم أطفال ونساء وشيوخ، وفقاً لتقديرات فلسطينية وأممية، مما يجعل السجون الإسرائيلية واحدة من أكثر منظومات الاعتقال قسوة وامتداداً في التاريخ المعاصر.
سجون الموت البطيء
وفق تقارير حقوقية دولية وإسرائيلية، منها تقرير منظمة “بتسيلم” الصادر في أغسطس/آب 2024، فإن أكثر من 10 آلاف فلسطيني محتجزون حالياً في ظروف غير إنسانية، وصفها التقرير بـ”الجحيم”، حيث يواجهون شتى صنوف التعذيب، من الحرمان من النوم والطعام والعلاج، إلى العزل الانفرادي، والضرب المبرّح، وسوء المعاملة المستمرة. وتضاف إلى ذلك ممارسات مهينة تمسّ الكرامة الدينية، مثل حظر الصلاة ومصادرة المصاحف، ومنع الزيارات.
تؤكد شهادات مئات الأسرى المحررين أن إدارات السجون تستخدم “التشريفة” – وهي ممر إهانة وضرب بين الجنود – كطقس يومي لإذلال الأسرى، إضافة إلى إجبارهم على العمل القسري، واحتجازهم في زنازين مكتظة وقذرة لا تصلح حتى للحيوانات.
جذور الاعتقال منذ النكبة
تعود جذور هذه السياسات إلى ما قبل إعلان دولة الاحتلال، حين أقامت العصابات الصهيونية معسكرات احتجاز مؤقتة في القرى الفلسطينية المهجّرة مثل صرفند وحيفا. بعد عام 1948، ورثت إسرائيل تلك المعتقلات عن الانتداب البريطاني، وأضافت إليها مراكز جديدة مثل معتقل إجليل وأم خالد، حيث مارست الاعتقال الجماعي والتعذيب والتجويع، بل واستخدمت الفلسطينيين كقوة عمل قسرية في مشاريعها العسكرية والاقتصادية.
وفي كتابه الشهير “التطهير العرقي في فلسطين”، يؤكد المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه أن المعتقلات الإسرائيلية الأولى ضمّت نحو 9 آلاف فلسطيني، غالبيتهم من المدنيين الذين لم يشاركوا في أي أعمال عسكرية، ما يثبت أن إسرائيل استخدمت السجون كأداة للتهجير والسيطرة.
من سيناء إلى النقب.. توسع أمني مستمر
بعد احتلال الضفة والقطاع عام 1967، وسّعت إسرائيل من بنيتها السجنية بشكل لافت، حيث أنشأت سجوناً جديدة مثل عسقلان وبئر السبع، ومعتقلات سرية في سيناء مثل “نخل” و”أبو زنيمة”، واحتجزت فيها مئات الفلسطينيين، بعضهم بحجج واهية مثل “التأهيل المهني”، وبعضهم من عائلات المطلوبين في محاولة لكسر شوكة المقاومة.
وفي انتفاضات الشعب الفلسطيني، كان الرد الإسرائيلي دائماً مزيداً من السجون ومراكز الاعتقال. فأنشأت معسكر أنصار في جنوب لبنان عام 1982 لاحتجاز آلاف الفلسطينيين واللبنانيين، ثم أعادت تفعيل “أنصار 3” في صحراء النقب خلال انتفاضة الأقصى، حيث اعتُقل فيه ما يزيد عن 50 ألف فلسطيني على مدار سنوات قليلة.
السجن كأداة سياسية وأمنية
اليوم، تضم إسرائيل نحو 20 سجناً مركزياً ومركز توقيف وتحقيق، يتوزعون بين مناطق 1948 والمناطق المحتلة عام 1967. ومن أبرزها سجون عسقلان، نفحة، مجدو، شطة، عوفر، وأيّالون. كل منها له تاريخ طويل في ممارسة الانتهاكات، سواء عبر أجهزة التحقيق مثل “الشاباك”، أو من خلال الإدارة الأمنية الصارمة التي تحوّل المعتقل إلى بيئة عدائية قاسية.
ولعلّ أخطر ما في هذه المنظومة هو السجن السري رقم 1391، الذي ظل مجهول الموقع والوظيفة لسنوات، حتى أجبرت منظمات حقوقية إسرائيلية المحكمة العليا على الاعتراف بوجوده. هناك، تُحتجز شخصيات محددة خارج القانون، في ظروف احتجاز مجهولة تُعتبر جريمة بموجب القانون الدولي.
معسكرات خارج الإنسانية
لقد تحوّلت السجون الإسرائيلية إلى معسكرات تعذيب ممنهج تستهدف الفلسطيني في إنسانيته وعقيدته وصموده. وإذا كانت هذه السجون جزءاً من أدوات الاحتلال التقليدية، فإن توثيق جرائمها، وإبراز معاناة الأسرى، هو اليوم من أبرز أولويات النضال الحقوقي والإعلامي الفلسطيني.
إعادة تفعيل مؤسسات الدفاع عن الأسرى، مثل “المركز الفلسطيني للدفاع عن الأسرى”، باتت ضرورة وطنية وإنسانية عاجلة، لاستنهاض الجهد الحقوقي والإعلامي في مواجهة هذا السجل الأسود للاحتلال الإسرائيلي، وكسر جدار الصمت الدولي عن هذه الجرائم المستمرة منذ أكثر من سبعين عاماً.